حظيت حركة الإخوان المسلمين من اسمها بنصيب وافر، خصوصا فيما يتعلق بكونها "حركة". فلم يكن هاجس المؤسس الأول حسن البنا فكرياً بقدر ما كان حركياً: الحركة من أجل حُلم عودة الخلافة الإسلامية، حركة لا تتعامل مع سؤال الحداثة، الذي فرض نفسه على الخلافة العثمانية في القرن الثامن عشر وعلى مصر مع دخول الحملة الفرنسية في 1789، ولا مع سؤال التراث، الذي ولد كمقولب لسؤال الحداثة، وكانت طريقة التعامل هي اللاتعامل وطريقة الفعل هي الامتناع عن الفعل.
"دقت ساعة العمل"، كان هذا شعار النشأة الأولى للجماعة، فلا وقت للتنظير أو الأشكلة. الـ"رسائل" مجموعة خطب ومحاضرات شديدة العملية، الـ"مذكرات" هموم الذات والحركة، وحتّى "فقه السنّة" - الذي كُتب تحت طلب المرشد الأول - تجميعة لآراء تقليدية لأقل من عشرة علماء من المتقدمين، وعلى أية حال، لم يحظ بوافر عناية من التنظيم. الجماعة أخذت التراث كميراث بغثه وسمينه، على الجملة، وأخذت شكل تنظيم حداثي. هي جماعة تراثية لا لإنها تقرأ التراث أو في التراث أو بالتراث، بل لإنها تحمله لزوم الحركة، وحداثية لا لأنها لبّت مطاليب الحداثة، ولكن أيضا لزوم الحركة. وكل هذا لا تربكه مقولات البنّا الكُبرى أو عباراته الرنانة، فهي أقرب للخطابات الحماسية منها للطروحات المعرفية.
وعليه، يُمكننا الحديث عن النشأة الأولى كحدث حركي قح، يسعى وراء الحُلم، مساحة اللامُفكَّر فيه أكبر من المُفَكّر فيه، الحركة كاستجابة غريزية أو حتمية حسية تحت ضغوط الحداثة والإحتلال والفساد السياسي لا كنتيجة لممارسات فكرية عميقة أو مستفيضة. وكنشأة حول المظلومية: القوى الدولية التي مزقت رجل أوروبا المريض وزرعت إسرائيل في المنطقة، وتركت العالم الإسلامي مهتكاً ومفسخاً، انتظار عودة أستاذية العالم الغائبة، لكنها تجربة انتظار أو غيبة أقرب لتصورات علي شريعني للغيبة، كـ"انتظار فعال"، منها لانطباعات المتقدمين الشيعة. ولعل فكرة وحدة الأمة والخلافة غذيت لدى البنّا من قِبل رشيد رضا، حيث كان هاجس البنّا الأصلي هو الاستعمار الذي يراه عياناً بياناً في الإسماعيلية، والذي شكّل الجوالة وأرسل القوات في 1948 واضطر إلى إدخال أحد أجنحة الجماعة في قلب العسكرتارية للقضاء عليه.
في السبعينيات، واجه شيوخ الجماعة وشبيبتها سؤال النشأة المستأنفة، في ظل مناخ سياسي مختلف مفعم بمساحات الحركة، فكان ميراث سيد قطب الفكري وشروحات محمد الغزالي ويوسف القرضاوي لبعض رسائل المؤسِس قد كتبت، وتلى ذلك كرّاسات مصطفى مشهور. ولم يتشكل خطاب المظلومية، كرد فعل بأثر رجعي على ممارسات نظام ناصر، أو، بوجه آخر، لم يُسمح له بالتضخم على حساب المظلومية الأم. وعلى سبيل ملء الفراغ الفكري صارت نصوص قطب نصوصاً موازية لرسائل البنّا ومذكراته، ورافعة نظرية لدى جناح من أجنحة الجماعة. ولأن التنظير شأن هامشي في البدء كان العود على نفس الوتيرة: فصار الإنتاج الفكري هماً ذاتياً لبعض من تربطهم بالجماعة غلالة رقيقة، أو لزوم الحركة لأن الجماعة - في النهاية – ترغب، فيما ترغب، في السيطرة على مساحات تقديم الوجبة الدينية. ولسنا هنا تجاه حكم قيمة على هذا السلوك، بقدر ما نرغب في التأكيد على أن التنظير لم يكن يوماً من قضايا المركز. وكانت النتيجة الطبيعية لذلك مقررات كـ"المبادئ" و"الرحاب"، هشّة وسطحية تضطر الأفراد لتفادي أي ممارسات فكرية عميقة أو وسائط معرفية مركبة.
في الراهن، يعود سؤال النشأة المستأنفة لصدارة المشهد، بعد أن تلقت الجماعة ضربات موجعة، يراها البعض قاضية. وتستمر وتتضخم المظلومية كدعامة نشوء، بعد حدث كربلائي كفض اعتصام "رابعة"، بل تصير مظلوميات بعضها فوق بعض. ولهذا، تبدو المظلومية كثابت يتيم بين متغيرين هما الحركة والفكر، ويتساءل الكثيرون عن الحركة والقليلون عن الفكر. فهل يستمر التنظيم في دائرة المظلومية-الحركة المفرغة، أم يذهب الفكر من الهامش إلى المتن، أم يُكتفى بالمظلومية كخاتمة كما كانت مدخلاً. أسئلة يشكل جزء من إجابتها موقف الجماعة من نفسها وذاكرتها، كما أنها في الوقت ذاته تلد أسئلة أخرى محيرة من أبرزها سؤال الفراغ.